فصل: تفسير الآية رقم (23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}
وكلمة دابَّة تعني كل ما يدب على الأرض، ولكنها خُصَّتَّ عرفًا بذوات الأربع. وجمع دابة دوابّ.
و{الدواب} كما نعلم هي القسم الثالث من الوجود، لأن الوجود مرتقي إلى حلقات؛ أولها الجماد، وثانيها النبات، وثالثها الحيوان، ورابعها الإنسان، ويجمع هذه الأشياء الأربعة رباط واحد، فنجد أن أعلى مرتبة في الأدنى، هي أول مرتبة في الأعلى، فالأدنى هو الجماد، وفوقه النبات، وأعلى شيء في الجماد، يُمثل أول شيء في النبات، مثل المرجانيات، كأن الجماد نفسه له ارتقاءات في ذاته تتوقف عند مرحلة معينة لا يتعداها، فلا ترتقي إلى أن تصير نباتًا، أو أن يصبح النبات حيوانًا، لا، إن كل قسم يظل مستقلا بذاته وفيه ارتقاءات تقف عند حد معين. وإذا كان أعلى شيء في الجماد يكاد أن يماثل أول شيء في النبات، فهو لا يتحول نباتًا مثل ظاهرة نمو الشعاب المرجانية التي أخذت ظاهرة النبات، لكنها لا تنتقل إلى نبات، بل تظل أعلى قمة في الجماد. وكذلك النبات، نجده يرتقي إلى أن ينتهي إلى أعلى مرحلة فيه. فالنبات مراحل، وآخر مرحلة فيه أن يوجد نبات يُحسّ، لأن الإحساس فرع الحياة، وهذا ما نراه في نباتات الظل التي نشاهدها وهي تتجه بطبيعة تكوينها إلى نور النهار. وكأن فيها نوْعًا من الإحساس. وإن تغير مكان الضوء، فإنها تُغيِّر اتجاهها إلى المكان الجديد.
وهناك نوع من النبات يذبل فور أن تلمسه. ونسمع عن نبات يسمى في الريف الست المستحية وهي تغلق أوراقها على ثمرها فور اللمس، وأخذت أعلى مرتبة في النبات، وهي أول مرتبة في الحيوان، لكنها لا ترتقي إلى حيوان. بل تظل في حلقتها كنبات.
ونأتي إلى الحيوانات لنجدها ترتقي، فهناك حيوانات تستأنس، وحيوانات لا تستأنس، بل تظل متوحشة، وقد خلقها ربنا لحكمة ما. فالإنسان يستأنس الجمل ولا يستطيع أن يستأنس الثعبان، ولا البرغوث، كأن الله يريد بذلك أن يعلمنا أننا لم نستأنس الحيوانات التي نستأنسها بقدرتنا وبذكائنا؛ بل هو الذي جعلك تأنس بها، فأنت أنست بالجمل، وقد ترى البنت الصغيرة وهي تقوده، وتأمره بالقيام والقعود، بينما البرغوث الصغير قد يجعل الإنسان ساهرًا طوال الليل لا يعرف كيف يصطاده. إذن هذه الأمور تعطينا حكمة أوجزها الحق تبارك وتعالى في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71- 72].
ولو لم يذلل الحق تبارك وتعالى هذه المخلوقات، لما استطاع الإنسان تذليلها، ونرى المخلوق الصغير وقد عجز الإنسان أمام تذليله، ليعرف أن المذلل ليس الإنسان، بل المذلل هو الله سبحانه وتعالى.
وفي المستأنس من الحيوانات تجد نوعًا تُعوده على بعض الأشياء فيعتادها ويقوم بها مثل القرد الذي يقول له مدربه اعجن عجين الصبية، أو العجوزة، فيقلد القرد الصبية أو العجوزة؛ لأن فيه قابلية التقليد، فهو يملك درجة من الفهم وهو أعلى مرتبة في الحيوان، ويقف عندها ولا يتطور إلى خارجها، بدليل أنك إن علمت قردًا كل شيء، فهو يصنع ما تعلمه له من الحركات ويضحك الناس منه، لكن القرد لا يستطيع أن يعلمها لبني جنسه. وكذلك نجد من يدرب الأسد والنمر ليؤدي فقرات ترفيهية في السيرك، لكن الأسد لا يعلم أولاده من الأشبال ما تعلمه من مدرب السيرك.
إذن فالوجود بحلقاته الأربع؛ جمادًا ونباتًا وحيوانًا وإنسانًا لا ترتقي فيه حلقة إلى الأعلى منها؛ بل تقف عند حد معين، وتلك هي الشبهة التي أصابت بعض المفكرين في أن يظنوا أن أصل الإنسان قرد؛ لأن المخلوقات حلقات يسلم بعضها لبعض، وأدنى مرتبة في الأعلى لكل حلقة هي أعلى مرتبة في الأدنى وتقف في حدودها. والذي يهدم نظرية داروين من أولها هو هذا الفهم لطبيعة التطور: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49].
أي أن كل الكائنات مخلوقة ابتداءً من الله، ولا يوجد جنس قد نشأ من جنس آخر.
ونقدم هذا الدليل العقلي لغير المتدينين، فنقول: لماذا لم تؤثر الظروف التي أثرت في القرد الأول ليصير إنسانًا، في بقية القرود لتكون أناسًا؟
وهكذا تنهدم النظرية- نظرية داروين- من أولها لآخرها، وعلماء الأجناس يهدمونها الآن. والحق تبارك وتعالى أخبرنا أن هذه المخلوقات التي تقع في المرتبة تحت الإنسان، لا تستطيع أن ترتب المقدمات، وتأخذ منها النتائج. ولا تعرف البديلات في الاختيار، والحيوان وهو أرقى الأجناس ليس عنده بديلات؛ إنه يتعلم مهمة واحدة وتنتهي المسألة؛ لأنها دواب لا تعقل، لكن الإنسان يملك القدرة على الاختيار بين البديلات. وجرب أن تعاكس قطة فإنك تجدها تهاجمك وتجرحك بمخالبها إلا إن كنت أنت مستأنسها وتعرف أنك تداعبها. أمَّا المؤمن العاقل المكلف فهو يتصرف في المواقف بشكل مختلف. فإن قام إنسان بإيذائه فقد يعاقبه بمثل ما عوقب، وقد يعفو عنه، وقد يكظم غيظه.
{والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس} [آل عمران: 134].
إذن فأنت أيها المؤمن عندك بديلات كثيرة، لكن الحيوان لا يملك مثل هذه البديلات.
ولذلك ضربنا من قبل المثل: لو أنك علفت حيوانًا إلى أن أكل وشبع ثم جئت إليه بعد شبعه بشيء زائد من أشهى طعام عنده؛ تجده لا يأكله. بينما الإنسان إن شبع فقد لا يمانع أن يأكل فوق الشبع من صنف يحبه.
ومثال آخر: نرى في الريف أن الحمار حين يرى جدولًا من المياه ويكون اتساع الجدول فوق قدرته على أن يقفز عليه ليعبره، نجد الحمار قد توقف رافضًا القفز أو المرور فوق هذا الجدول.
فهل قاس الحمار المسافة بنظره ووازنها بقدرته؟! إنه يقفز فوق الجداول التي في متناول قدرته، لكنه يرفض ما فوق هذه القدرة، رغم أننا نصف الحمار بالبلادة.
وهذا يبين لنا أن كل جنس يسير في ناموس تكوينه ليؤدي مهمته التي أرادها له الله. ولقائل أن يقول: كيف يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} بينما الحيوانات كلها مسخرة؟ ونقول: إذا كنت أيها الإنسان تأخذ وظيفة الأدنى فأنت تختار أن تكون شرًا من الدابة؛ لأن الأدنى مسخر بقانونه ويفعل الأشياء بغرائزه لا بفكره، فكأن فكر الاختيار بين البديلات غير موجود فيه، لكنك أيها الإنسان ميزك الله بالعقل الذي يختار بين البديلات، فإن أوقفت عقلك عن العمل، وسلبت قدرتك على القبول لما تسمع من وحي ألا تكون شر الدواب؟
وحين نتأمل كلمة شر وخير نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8].
فالخير يقابله الشر، وحين يقابل الخير الشر، فالإنسان يميز الخير، لأنه نافع وحسن، ويميز الشر؛ لأنه ضار وقبيح.
ولكن كلمة خير تستعمل أحيانًا استعمالًا آخر لا يقابله الشر، بل يقال: إن هذا الأمر خير من الثاني، رغم أن الثاني أيضًا خير، مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير».
إنّ كلًا منهما- أي المؤمن القوي والمؤمن الضعيف- فيه خير، لكن في الخير ارتقاءات، هناك خير يزيد عن خير، ويخبر المولى في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدوآب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ}.
أي أن الكفار شر ما دبَّ على الأرض لأنهم قد افتقدوا وسيلة الهداية وهي السماع، وبذلك صاروا بكمًا أي لا ينطقون كلمة الهدى. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {إن شر الدواب عند الله} قال: هم الكفار.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إن شر الدواب عند الله} قال: هم نفر من قريش من بني عبد الدار.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {الصم البكم الذين لا يعقلون} قال: لا يتبعون الحق.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: أنزلت في حي من أحياء العرب من بني عبد الدار.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث وقومه.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {إن شر الدواب عند الله} قال: الدواب الخلق، وقرأ {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45].
{وما من دابة في الأرض إلا على رزقها} [هود: 6] قال: هذا يدخل في هذا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}
دواعي الحق بحسن البيان ناطقة، وألسنة البرهان فيما ورد به التكليف صادقة، وخواطر الغيب بكشف ظُلَمِ الريْبِ مُفْصِحة، وزواجر التحقيق عن متابعة التمويه للقلوب ملازمة. فَمنْ صُمَّ عن إدراك ما خوطب به سرُّه، وعمِيَ عن شهود ما كوشف به قلبه، وخَرِسَ- عن إجابة ما أُرْشِدَ إليه من حجة- فَهْمُه وعقله فَدُونَ رُتْبةِ البهائم قدْرُه، وفوق كل (...) من حكم الله ذُلُّه وصغره. اهـ.

.تفسير الآية رقم (23):

قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ذلك ربما دعا السامع إلى أن يقول: ما للقادر لم يقبل بمن هذا شأنه إلى الخير؟
أجاب بأنه جبلهم من أول الأمر- وله أن يفعل في مِلكه ومُلكه ما يريد- جبلة عريقة في الفساد، وجعل جواهرهم شريرة كجوهر العقرب التي لا تقبل التأديب بوجه ولا تمر بشيء إلا لسبته، فعلم سبحانه أنه لا خير فيهم فتركهم على ما علم منهم {ولو علم الله} أي الذي له الكمال كله {فيهم خيرًا} أي قبولًا للخير {لأسمعهم} أي إسماعًا هو الإسماع، وهو ما تعقبه الإجابة المستمرة.
ولما كان علم الله تعالى محيطًا، وجب أن يعلم كل ما كان حاصلًا، فكان عدم علمه بوجود الشيء من لوازم عدمه، فلا جرم كان التقدير هنا: ولكنه لم يعلم فيهم خيرًا، بل علم أنه لا خير فيهم فلم يسمعهم هذا الإسماع {ولو أسمعهم} وهم على هذه الحالة من عدم القابلية للخير إسماعًا قسرهم فيه على الإجابة {لتولوا} أي بعد إجابتهم {وهم معرضون} أي ثابت إعراضهم مرتدين على أعقابهم، ولم يستمروا على إجابتهم لماة جبلوا عليه من ملاءمة الشر ومباعدة الخير، فلم يريدوا الإسلام وأهله بعد إقبالهم إلا وهنًا، وكما كان لأهل الردة الذين قتلوا مرتدين بعد أن كانوا دخلوا في الإسلام خوفًا من السيف ورغبة في المال وهو من وادي {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] فإن علم الله تعالى أربعة أقسام: جملة الموجودات، وجملة المعدومات، وأن كل واحد من الموجودات لو كان معدومًا كيف يكون حاله، وأن كل واحد من المعدومات لو كان موجودًا كيف يكون حاله، والقسمان الأولان علم بالواقع، والآخران علم بالقدر، والآية من القسم الأخير، ولعمري إنا دفعنا إلى زمان أغلب من فيه على قريب من هذا الأمر، أجرأ الناس على الباطل، وأثبتهم في المصاولة فيه، وأوسعهم حبلًا في التوصيل إليه، وأجبنهم عند الدعوة إلى الحق، وأسرعهم نكوصًا عند الإقدام بعد جهد عليه، وألكنهم عند الجدال له، فصار ما كان مقدرًا مفروضًا حاصلًا وموجودًا، وكلمة {لو} هنا يحتمل أن تكون هي التي يعلق بها أمر على آخر هو بضده أولى فيكون المراد أن المعلق.
وهو الثاني- موجود دائمًا مثل قول عمر- رضى الله عنهم-: نعم العبد صهيب- رضى الله عنهم-! لو لم يخف الله لم يعصه، فالمراد هنا على هذا أنهم إذا كانوا يتولون مع الإسماع والإجابة، فتوليهم مع عدمهما أولى- نبه على ذلك الرازي، ويحتمل أن يكون على بابها من أن الجزءين بعدها منفيان، وانتفاء التولي إنما يكون خيرًا إذا نشأ عن الإسماع المترتب على علم الخير فيهم، وأما عدمه لعدم إسماعهم الإسماع الموصوف لأنه لا خير فيهم فليس من الخير في شيء بل هو شر مخص، التولي المنفي عنهم ليس هو الموجود منهم، بل هو الناشيء عن الإسماع الموصوف فلا يناقض ادعاؤه تحقق عنادهم وعدم انقيادهم، وتحقيقه أن المنفي إنما هو زيادة التولي الناشئة عن الإسماع، فالمعنى: ولو أسمعهم لزادوا إعراضًا، فالمنفي في هذا السياق تلك الزيادة- والله الموفق. اهـ.